هادي الربيعي
منذ نعومة أظفاره واجه تشارلز ديكنز عالماً مليئاً بالمشاكل والأزمات فوالده جون ديكنز كان رجلاً لا يحسن التصرف في مواجهة أعباء الحياة لذلك غرق في دوّامة من المشاكل والديون التي اودت به أخيراً الى السجن وهكذا تحتم على تشارلز الصغير ان يواجه الحياة وما تزخر به من مشاكل وحيدا ومعتمداً على نفسه لذلك اندفع في المواجهة بكل ما يملك من ضراوة فلم يكن هناك امامه طريق آخر.
عمل تشارلز ديكنز في بداية حياته مغنياً في الشوارع مقابل بعض المبالغ الزهيدة التي لم تكن كافية لسد متطلباته الشخصية مما اضطره للعمل في احد معامل الصباغة فكانت مهمته لصق العناوين على القناني الصغيرة ليبدأ مرحلة طويلة من العمل الشاق والمضني وفي العشرين من عمره كان يعمل كاتب ضبط في البرلمان نهاراً وكاتب سكيجات روائية عن الحياة اللندنية ليلا ينشرها باسم مستعار.
في بداية العقد الثاني من عمره بدأت ابواب النجاح تتفتح امام تشارلز ديكنز وقد اصدر اول كتبه بعنوان ( سكيجات) بقلم بوز وهو الأسم المستعار الذي كان ينشر به كتاباته وقد استطاعت هذه السكيجات ان تثير اهتمام الناشرين فطلبوا منه كتابة فصل في كل شهر عن حياة احد الفنانين الشعبيين المعروفين ، غير ان موهبة تشارلز ديكنز استطاعت ان تحول هذه الموضوعات الى صحائف بيكوك الخالدة وكان يعمل محاولاً فرض وجوده بشكل بطولي قل نظيره مما حدا بأحد اصدقائه لأن يقول عنه ( ان في وجهه العظيم حياة خمسين من البشر وارواحهم الطافحة بالحياة والقوة ومع ذلك لم يكن تشارلز ديكنز يملك القليل ليحظى برضا المرأة التي أحبها من أعماقه واختصها بمشاعره من بين جميع نساء العالم ) وكان يعني بها ماريا بيدنيل ابنة مدير البنك التي تعلق بها ديكنز الى ابعد الحدود.
حققت صحائف بيكوك نجاحاً كبيراً على المستوى الشعبي وحقق ديكنز شهرة واسعة من النادر ان يحصل عليها احد من الكتاب وكانت لندن كلها تزدهر بعربات بوز وأربطة بيكوك والبسة سام ويلر ولم يكن هناك مكان في لندن لم تصل اليه صحائف بيكوك فالأطباء يحملون هذا الكتاب وهم يتفقدون مرضاهم والمحلفون يضعونه على منصة المحكمة وقد وصل الأمر الى ان رجلا كان على وشك الموت همس في اذن القسيس قائلاً( الحمد لله انني استطيع أن اموت بسلام لأنني قرأت العدد الأخير من بيكوك )
يُقال ان انكلترا انجبت أعظم فنانين في تأريخا الأول رينولدز رسام الجسم البشري ومبدع خفاياه الرائعة والثاني تشارلز ديكنز الرسام الكاريكاتيري للروح الأنسانية والحقيقة ان ديكنز لم يتوقف عند حدود كونه رساماً لهذه الروح بل انه كان يمتلك الموهبة النادرة في نسج العقدة في قصصه ورواياته وكان يمتلك خيالاً رحبا ومتألقاً يحسده عليه كبار الكتاب في العالم وكان مثار غيرة عدد كبير من مشاهير الكتاب ومن بينهم ناثائيل ثاكيري مؤلف _ سوق العبيد – الذي قال عن ديكنز ذات يوم ( ما الفائدة من ركضي وراء هذا الرجل وأنا لا أستطيع الأقتراب منه ؟)
عاش ديكنز حياة حافلة ضاجة بالحركة والحيوية والأبداع المتواصل وكان يبدو وكأنه موجودٌ في كل مكان ويعرف كل شخص ويشارك في تجربة كل انسان وقد سجل الكثير من تفاصيل حياته في كتابه الشهير ( ديفيد كوبر فيلد)وكان كلما اوغل في العمر ازداد تعلقاً بالآخرين فهو يعيش حياة متحركة على الدوام حتى يبدو أحياناً وكأنه طفل جهنمي يريد ان يرتوي من الحياة الى اقصى حد ممكن يستطيعه فكان يندفع دائماً لمعرفة اصدقاء جدد وكان يبحث دائما عن اشياء جديدة ويمكن رؤيته دائماً في اكثر من مكان فكان يتعلم الرقص ويمارس الأخراج المسرحي ويعمل ممثلاً ويعيد كتابة مسرحيات قديمة ويكتب مسرحيات جديدة وقد احب الأطفال الى درجة انه كان يترك الكتابة في بعض الأحيان ليلعب معهم وبهذه الروح الأنسانية الضاجة بالحياة والحركة عاش تشارلز ديكنز حياة حافلة بالعطاء والجنون وقدم أعمالاً خالدة سوف تبقى متوهجة في ضمير الزمن وحسبه انه قدم للبشرية رائعته الخالدة – قصة مدينتين – لتقف بجدارة واستحقاق الى جانب اروع الروايات الكلاسيكية الخالدة وليقف ديكنز جنباً الى جنب مع كتاب الروائع الخالدين من امثال دستويفسكي وفكتور هيجو وأميل زولا وهيمنجواي وغيرهم اولئك الذين امتلكوا قدرة اختراق المستقبل بمواهبهم الفريدة وارادتهم الصلبة وعملهم المثابر لأنهم كانوا من القلة النادرة التي تقذف بهم القرون الى البشرية بين الحين والآخر ليؤكدوا عظمة الأنسان على الأرض