هادي الربيعي شاعر ستيني شهد على كل الأنماط التي كُتبت بها القصيدة العربية وجرب الكتابة فيها ، واذ نطالع مجموعة الدواوين الشعرية التي اصدرها الشاعر هادي الربيعي يتجلى ذلك واضحاً حين جرب الشاعر كتابة قصيدة الشطرين ثم قصيدة التفعيلة ومن بعدها قصيدة النثر بعد ان قاطع وخاصم الأشكال الشعرية الموروثة حين عزف عن كتابتها برهة من الزمن ليجرب الكتابة في الأشكال الشعرية التي تلتها وكانت اكثر حداثةً منها
واليوم _ وليس اليوم بالذات – وانما نعني بذلك السنوات الأخيرة يعود الشاعر هادي الربيعي ليصالح التراث ثانية بعد ان نال درجته الحقيقية من الأصالة لديه مذللاً تلك العوائق التي يرتطم بها التطبيق فيكتب قصيدة الشطرين بصفاءٍ واضحٍ ولكن الوضوح أو الصفاء بوزنه النوعي ولا فرق لديه في ان يطرح مجمل الأسئلة الشعرية في هذا المعين أو ذاك ما دام الشعر شعراً وما دامت تلك الأشكال عبارة عن جُزر ٍ متعددة تقيم داخل مياه بحر ٍ واحد وبدلاً من زهرة واحدة في الحديقة العامة لتكن تلك الحديقة بأزهار ٍ متعددة اذ ان تلك الأزهار في المحصلة النهائية هي كائنات من جنس واحد هو الشعر ولهذا نسج الشاعر قصيدته ( مزرعة الأنبياء) على النول العمودي رغم إظهاره القدرة والبراعة في كتابة الأشكال الشعرية الأكثر حداثةً :
أسود ٌ على بابها خُشّــــعُ ينام الزمان ُ ولا تهــــــجع ُ
شموسٌ اذا شبّ َفجرٌ وليد وفي الليل انجمهم تـــطلع ُ
أياديهمُ تنثرُ الطــــــــيّبات ِ على الطُرُقات ٍ ولا تُسـمع ُ
قيامٌ اذا قامَ وجه ُ النــــهار وفي ليلهم سجّدٌ رُكــــــــع ُ
روافدهم في اقاصي البلاد وفي يدهم يشرق ُ المنـبع ُ
وأروع ُ ما في قلوب الأسود قلوب ٌ يفيض ُ بها الأوسع ُ
وما لقصائدهم من خـــتام قصائدهم كُلّها مطلـــــــع ُ
لعل ابرز المشاكل الرئيسية التي واجهت حداثة الشعر أو الشعر الحديث هي كيفية ايجاد العلاقة بين الموروث الشعري الخالص والأحساس الكامل بتعقيدات الوعي الحديث ولعل الشاعر الربيعي كأي شاعر آخر واقع في منطقة التجاذب بين هذا وذاك وهو بمعالجته حدثاً تأريخياً بأشكال موروثة لم تصطحبه أخطاء الكتابة التقليدية التي بدت على شعر غيره وانما تجلت لديه امكانية كتابة شعر كهذا بضبط واعتدال دون ان يفقد قدرته على التحرك اللازم في مجال موضوعه فلم نلحظ لديه تكراراً للقوافي او تعباً لها فالقافية لديه لا تجيء لاهثة ً حتى اذا قاربت نهاية البيت سقطت قبل ان تصل وهو لم يسطر قوافيه تلك ميتةً كأزرار المعاطف وانما تمتعت تلك القوافي رغم أثارتها بدينامية ٍ جعلتها تبدو حيةً ً بايقاعاتها ودلالاتها :
وما حجرٌ كلُ ما في الجبال وما ذهبٌ كلُ ما يلمــــــــــــــع ُ
وبعضهم ُ ابداً واقفــــــــون وبعض ٌ وان وقفوا رُكـــــــــع ُ
ومن ضّيع َالأمسَ في يومهِ فموعدهُ في غدٍ أضـــــــــــيــع ُ
ونخبٌ على شرف المغريات ونخبٌ لسقراطه ِ يُرفـــــــــــع ُ
هي الأرضُ تولد في كربلاء لتطوي مسافاتها الأدمــــــــع ُ
وتولدُ فوق قُدامى الجراح براعمُ تحضنها الأضلـــــــــع ُ
وهذا الترابُ البهيُ الطهــورُ من جنة ِ الخُلد ِ مستقــــــطع ُ
رعاه الألهُ فأشرق َ فيــــــه ِ شُعاع ُ رسالاتــــــــــهِ الأروع ُ
وفي ارض مزرعة ِ الأنبياء هنا البدءُ والـسفر ُ والمرجع ُ
رغم انتقالات القصيدة داخل أبياتها من صورة ٍ لأخرى ، الا ان القصيدة لم يبدُ عليها أي ارتباك ٍ أو غموض ٍ او ابهام ، وانما تنتصب الصور ُ والأفكار ُ مألوفة ً وأليفةً كما ان هناك تركيزاً على الأثر الملائم شعرياً رغم الشكل التقليدي الذي اختاره الشاعر الربيعي لقصيدته :
وحقل ٌ يفيض ُ بأشـــــــواكه ِ وحقلٌ الى جنبه ِ ممــرع ُ
ونحن عليها ضماءُ العصور تمرُ العصور ُ ولا نجزع ُ
ويأكلُ من لحمنا من يشاء ُ ونحن بأوهامنا نشبـــع ُ
أتانا عليها خريف ُ الحيـــاة وذئب المنية ِ يســتطلع ُ
نسير ُ فنطوي بها بلقـــــعا فيولدُ في افقها بلـــــــقع ُ
أغثنا عليها ابا الـــــشهداء ِ فمثلُكَ في مثلهـــا يشفع ُ
قد تبدو هذه الأبيات مجازاً خيالياً يسطره الشاعر شعراً ولكننا نراها تمثل واقع وأحاسيس الشاعر تجاه التجربة التي تستثيره وهو يصفها كما يحسّها تماماً ، انها تعكس مشاعره ُ بدقة ٍ صارمة ٍ وخاصة ً عندما ينتقل من التأثير المرئي الى المداليل التي يوقظها ذلك التأثير والذي يرتبط به الشاعر الربيعي ارتباطاً وثيقاً .
ًٍ