فصل في حكاية ظل المنارة وعجاج الطبل
تأثير الخديعة قد يكون احيانا ابلغ من جرح الكرامة ، ذلك ما احسّهُ تماماً وانا أحاول الكتابة عن العم خضر، ما زلت اتذكر ذلك المحل الذي ارسلني اليه والذي يقع مباشرة تحت مئذنة احد الجوامع وهو يعطيني عشرة فلوس لأشتري له في المنارة وعجاج الطبل و(الفي) هو الظل كما تعرفون ، ربما كنت في السابعة من العمر في ذلك الحين وقد توجهت الى السيد مهدي صاحب المحل وقلت له عمي خضر يسلم عليك ويريد بخمسة فلوس في المنارة وبخمسة فلوس عجاج الطبل ، ضحك السيد مهدي طويلا وهو يهمس لي عمك يضحك عليك فلا يوجد في منارة ولا عجاج طبل ولكن قل له السيد يقول (خلصّنه) وعدت الى البيت وانا في ذروة غضبي ولا استطيع ان انسى حتى اليوم في المنارة وعجاج الطبل وقد نمت بذرة كراهية غريبة لعمي بسبب هذه الخديعة ما زال تأثيرها حتى اليوم رغم ان العم خضر رحل عن هذا العالم منذ امدٍ بعيد . ولم يكن امر العم خضر يعني كثيراً لدى الجدة سكنة فهي تعرف ان الخمرة لا تفارق شفتيه ليل نهار ، كما انها لا تستفيد منه في غزواتها على الأخوة بين الحين والآخر، بل ان الكثير من الغزوات استهدفته هو بالذات لأنه لم يكن يقوم بواجب رعايتها وواجب الرعاية هنا هو ان يضع بين يديها مبلغاً من المال بين الحين والآخر تضيفه الى محتويات صرَُّتها السوداء التي تحتفظ بها دائماً في الجانب الأيمن من جيب ثوبها الأسود وحين يدخل العم خضر الى بيت الجدة فانها تستعيذ بالرحمن لأن رائحة رائحة عرق هبهب تهب مثل عاصفة ٍ في البيت وكم حاول العم خضر ازالة هذه الرائحة غير ان جميع المُعطِّرات التي استخدمها كانت عاجزةً في الوقوف أمام هذه الرائحة التي كانت تخترق حتى جدران البيت وربما تجاوزت ذلك فاخترقت حتى جدران البيوت المجاورة وكانت الجدة تعتبر العم خضر نجساً فاذا حاول تناول الطعام عندها فانها تقدم له الطعام على مضض في أطباق معدة له فقط فهي غير ( معلولة ) بمعنى انها غير نظيفة ولا تهتم بغسلها لأنها معدة اساساً لرجل نجس فما الحاجة الى تطهير اناء يأكل فيه رجل نجس؟؟
حين يمشي العم خضر فإن جانبه الأيسر يتقدم على جانبه الأيمن دائماً ويده اليسرى تتقدم على يده اليمنى ومع ذلك فأنه يمشي لمسافات طويلة وبسرعة غريبة ولا يمكن لآحد ان يلحق به وكل من يسيرون معه يتخلفون وراءه بمسافة بعيدة وكان يلتفت الى الوراء بين الحين والآخر ليعرف مدى المسافة التي تفصله عمّن وراءه وهو يبتسم ولو شارك العم خضر في أي سباق ماراثون للمسافات الطويلة فانني واثقٌ انه لابد ان يحصل على احدى المراتب العليا إن لم يكن الأول وهذا ما أؤمن به تماماً وكان الرجل مجاهداً من اجل لقمة العيش من طرازٍ فريد فتراه يعمل كل شيء من اجل أي شيء ، وقد القى باولاده الى الشوارع من اجل العمل ايضا فما كان يحصل عليه لم يكن يكفيه خاصة وان الله قد ابتلاه بشرب العرق بشكل دائم وصل به الى الإدمان وأي عرق كان يشربه ؟، انه عرق هبهب وما ادراك ما عرق هبهب وصناعة هذا العرق تعتمد على التمور الرخيصة الفاسدة التي تزكم رائحُها الأنوف ، وتُعصَرًُ هذه التمور من خلال نشرها على الأرض اولا حيث يتوافد عدد من الرجال الحفاة باقدامهم القذرة ليدوسوا على هذه التمور كمرحلة اولا ومن ثمن تؤخذ عصارة هذا التمر لصناعة عرق هبهب وربع قنينة من هذا العرق كافية لطرح اكبر فيل هندي على الأ رض دون حراك وعشاق هذا العرق الخطير كثيرون وفي مقدمتهم العم خضر وحين تحدق في قنينة عرق هبهب فانك ترىكائنات غريبة عجيبة وهي تسبح داخل القنينة بحيوية بالغة وقد يسخر المدمنون على هذا العرق من افخر المشروبات الكحولية في العالم وقد يستبدلون افخر قنينة من هذه المشروبات بقنينة عرق هبهب السحري العجيب وكان بعض المدمنين ينامون في الشوارع ليلاً لأنهم لا يستطيعون الوصول الى بيوتهم لشدة تأثير هذا العرق عليهم ومن المعتاد ان ينسوا ملامح الطريق الى بيوتهم فيختصرون الطريق وينامون على الأرض غير شاعرين بأي شيء فعرق هبهب درع حديدي ضد البرد والحر وكل عوارض الطبيعة القاسية وحدث ذات مرة ان مصوِّرَين احدهما عصمت والآخر سهيل حدث انهما اضاعا الطريق الى البيت فظلاّ يسيران على غير هدى حتى دخلا معسكرا للجيش وعندها سحب العسكري المكلف بالواجب الليلي الأقسام وهو يصرخ بهما : سِرْ الليل؟؟؟؟ ولما كانا لا يعرفان اساساً انهما داخل معسكر للجيش اجابا ببرود غريب : عصمت وسهيل وكادا ان يذهبا ضحية ً لعرق هبهب لولا ان الحارس عرفهما وقذف بهما الى خارج المعسكر ، أما ابو الكِش فهو اشهر المدمنين لهذا النوع من العرق العجيب ولا احد يعرف الإسم الحقيقي لأبي الكش غير ان المدينة كلها تعرفه تماماً فهو اشهر من نار على علم وكان يسير طوال الليل وهو يحمل قنينة عرق هبهب العجيبة ويدور في الشوارع وكل من يحاول ان يحدثه يسخر ضاحكا وهو يقول جملته الشهيرة ( يابه دكش) ورغم مرور اكثر من نصف قرن ما زلت اجهل معنى هذه الجملة ومن طرائف ما يروى عن ابي الكش حقيقة يؤكدها الجميع حيث كان ابو الكش يتجول ليلاً في الشوارع وهو يحمل قنينته السحرية التي تسبح فيها عجائب المخلوقات ويرفعها الى شفتيه بين الحين والآخر ويقضم خيارة يضعها في احد جيوب سترته القذرة الممزقة بعد كل رشفة يرتشفها من السائل السحري وعندها توقفت سيارة تحمل الزعيم عبد الكريم قاسم رئيس وزراء العراق وصانع ثورة تموز ، توقف عبد الكريم قاسم ونزل من سيارته وتحدث مع ابي الكش ناصحا اياه بالحفاظ على صحته وكان لا يستطيع الوقوف من شدة تأثير المشروب عليه فكان يترنح ذات اليمين وذات الشمال وهو يرفع بصره بالكاد ليرى من يحدثه والزجاجة في يده وكأنه كان ينظر الى صحراء مترامية الأطراف قال الزعيم أنا عبد الكريم قاسم رئيس وزراء العراق ، انتابت (ابو الكش) نوبة ضحك مجلجلة ) قال وهو ما زال تحت تأثير نوبته الساخرة : شوف هذا المخبل ، لك يا عبد الكريم قاسم يا نجيب الربيعي وكان نجيب الربيعي رئيس جمهورية العراق في وقته ، يابه دكش ( اذا جنت عبد الكريم قاسم من صدك روح شوف الافران وروح شوف خبز المخابز كل كرصه صايره بكد الدرهم -والدرهم عمله معدنية صغيرة- شوف الفقرة شكو مكابلني بهل الليل ) أدرك عبد الكريم قاسم عدم جدوى التحدث مع ابي الكش وهو يترنح غير قادر على ان يسند طوله فاعطاه عشرة دنانير كانت مبلغا خيالياً في ذلك وحتى ابو الكش لم يعرف قيمة المبلغ الذي استلمه من الزعيم فقد القى الورقة النقدية في جيبه الممزق دون ان ينظر اليها وعاد ليأخذ رشفةً اخرى أمام انظار الزعيم ويقضم ما تبقى من الخيارة القذرة ، والغريب ان عبد الكريم قاسم اقتنع برأي ابي الكش فذهب في تلك الليلة في جولة لتفقد جميع افران الخبز وحينها اطلق العبارة الشهيرة التي يعرفها جميع العراقيين لجميع اصحاب افران الخبز ( صَغّروا صورتي وكَبّروا رغيف الخبز) وبالفعل تحسن وضع الرغيف بشكل كبير بعد ليلة لقاء الزعيم بأبي الكش ، اعود الى العم خضر الذي كان لا يحلو له الشرب الا عند النهر فكان يأخذ مستلزمات المشروب ويندفع عبر طريق يشق البساتين الكثيفة وصولا ً الى النهر وهناك يفترش الآرض ويفرش ما لديه ويبدأ في رحلة الخيال اللانهائي وهناك يحقق سعادته القصوى وعائلة العم خضر تعرف انه قد يعود وقد لا يعود فاذا تمكن من التعرف على طريق العودة فقد يعود واذا لم يستطع يبقى مستلقيا على ضفاف النهر حتى اليوم التالي ولا احد يعرف متى يصحو ليعود الى هذا العالم وربما كان عرق هبهب وراء ابتسامة العم خضر الدائمة فهو رجل دائم الإبتسام بسبب او بدون سبب وكان لا يحسن لف ( الجرَّاوية البغدادية ) التي يضعها على رأسه فتراها مرتبكةً دائما وقد يظهر منها ذيل ٌ قد يأخذ أي اتجاه ٍ من الإتجاهات الأربعة لا ينتبه له العم خضر ابداً ولا يريد ان ينتبه فمثل هذه التوافه لا تعنيه بشيء فهو صاحب اسوأ مظهر خارجي في التأريخ ولم يعرف كي اية قطعة ملابس طوال حياته وابزيم الحزام قد يكون على الجانب الأيمن بينما يستدير البطلون الى الجانب الأيسر ومن السهولة ان يرتدي العم خضر جوارب بلونين دون ان ينتبه ولا يهمه ان ينتبه والجوارب في جميع الأحوال ممزقة ، وقد يأخذ العم خضر معه الى النهر صنارةً لصيد السمك حيث كان يعد الحطب على الضفاف ليشوي السمكة التي يحلم باصطيادها ولكن يده كانت تتراخى دائماً بعد ان يصعد الشعاع السحري الى رأسه فتسحب السمكة الصنارة وتهرب بها فلم يكن قادراً على الإمساك بعود الأغصان الذي يربط به الصنارة عادة ومع ذلك قد يكذب العم خضر وهو يروي تفاصيل اصطياده لسمكة كبيرة وكيف جلس على ضفاف النهر وهو يستمتع بلحمها مع عرق هبهب الشهير الذي وصلت آفاق شُهرتهِ الى العديد من البلدان الأوربية وينطبق قول الشاعر القديم : إذا متُ فادفنني الى جنب كرمةٍ / تروِّي عظامي بعد موتي جذورها على العم خضر تماماً ولو كان مثقفاً لعبدَ هذا الشاعر الذي يعبر عن اعماقه وعن مدى حبه لعرق هبهب الذي لا يعادله بكل ما في الأرض من خمور مهما كانت أنواعها ، وكاد العم خضر ان يموت فعلاً وهو يستلقي على ضفة النهر حين اندفعت افعى من البساتين القريبة لتلدغ العم خضر وقد لا يصدق احد ٌ ابداً ان الأفعى التي لدغت العم خضر ماتت بعد دقائق لأن سموم العم خضر كانت اقوى من سموم الأفعى وربما كان اول رجل في التاريخ يقتل افعى بسمومه ولم يصدق الكثيرون بحكاية قتل الأفعى غير ان العم خضراقتاد البعض بالفعل عبر طريق البساتين الذي اعتاد على عبوره وهو في طريقه الى النهر ودلهم على مكان الأفعى الميتة وهي ملقاة على ضفة النهر فعادوا وهم يؤكدون للأخرين حكاية موت الأفعى بسموم العم خضرفانتشرت الحكاية في المدينة وكأن العم خضر قام بفتح عظيم يدخل به التاريخ من أوسع ابوابه ولو كان العم خضر حياً كان من الممكن بسهولة ان يدخل كتاب غينس للارقام القياسية باعتباره المتفرد الوحيد في العالم الذي استطاع ان يقتل افعى بسموم دمه وكان من السهولة ايضا ان يكون من أشهر عدائي الماراثونات في العالم وسرعان ما انتقل العم خضر الى العالم الآخر بسبب دمه الملوث الذي لا يمكن لأي علاج في العالم حينذاك ان يجد له حلاًّ فقد احترق دمه تماماً بنيران عرق هبهب ولا بد ان اعود الى جميع الآباء لأقول لهم ان جرح الخديعة قد يكون ابلغ من جرح الكرامة فاحذروا ظل المنارة وعجاج الطبل .